كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} أَيْ وَهُوَ اللَّطِيفُ بِذَاتِهِ، الْبَاطِنُ فِي غَيْبِ وَجُودِهِ بِحَيْثُ تَخْسَأُ الْأَبْصَارُ دُونَ إِدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ، عَلَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ بِآيَاتِهِ الَّتِي تَعْرِفُهُ بِهَا الْعُقُولُ بِطَرِيقِ الْبُرْهَانِ، الظَّاهِرُ فِي مَجَالِ رُبُوبِيَّتِهِ لِأَهْلِ الْعِرْفَانِ، بِتَجَلِّيَاتِهِ الَّتِي تَكْمُلُ فِي الْآخِرَةِ فَيَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ رُؤْيَةَ عَيَانٍ، وَهُوَ فِي كُلٍّ مِنْ بُطُونِهِ وُظُهُورِهِ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَهُوَ الْخَبِيرُ بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَلَطَائِفِهَا، بِحَيْثُ لَا يَعْزُبُ عَنْ إِدْرَاكِهِ أَلْطَفُ أَرْوَاحِهَا وَقُوَاهَا وَلَا أَدَقُّ جَوَاهِرِهَا وَأَعْرَاضِهَا، فَفِي الْآيَةِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ.
اللَّطِيفُ مِنَ الْأَجْرَامِ ضِدُّ الْكَثِيفِ وَالْغَلِيظِ فَيُطْلَقُ عَلَى الدَّقِيقِ مِنْهَا وَالرَّقِيقِ، وَاللَّطِيفُ مِنَ الطِّبَاعِ ضِدُّ الْجَافِي، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَاللَّطِيفُ مِنَ الْأَجْرَامِ وَالْكَلَامِ مَالَا خَفَاءَ فِيهِ، وَجَارِيَةٌ لَطِيفَةٌ ضِدُّ الْجَافِيَةِ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَاللَّطِيفُ مِنَ الْأَجْرَامِ وَمِنَ الْكَلَامِ.
مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ وَجَارِيَةٌ لَطِيفَةُ الْخَصْرِ إِذَا كَانَتْ ضَامِرَةَ الْبَطْنِ، وَاللَّطِيفُ مِنَ الْكَلَامِ مَا غَمُضَ مَعْنَاهُ وَخَفِيَ، وَاللُّطْفُ فِي الْعَمَلِ الرِّفْقُ فِيهِ انْتَهَى، وَكَذَا اللُّطْفُ فِي الْمُعَامَلَةِ هُوَ الرِّفْقُ الَّذِي لَا يَثْقُلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيُسْتَعْمَلُ فِعْلُهُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: لَطُفَ الشَّيْءُ (بِوَزْنِ حَسُنَ) أَيْ صَغُرَ أَوْ دَقَّ وَصَارَ لَطِيفًا. وَيُقَالُ: لَطَفَ بِهِ وَلَطَفَ لَهُ (بِوَزْنِ نَصَرَ) وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي تَفْسِيرِ اللَّطِيفِ. مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي اجْتَمَعَ لَهُ الرِّفْقُ فِي الْفِعْلِ وَالْعِلْمُ بِدَقَائِقَ الْمَصَالِحِ وَإِيصَالِهَا إِلَى مَنْ قَدَّرَهَا لَهُ مِنْ خَلْقِهِ انْتَهَى. أَرْجَعَهُ إِلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَإِلَى الْعِلْمِ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي. وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ مِنَ الثَّانِي، فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِنْبَاتِ بِالْمَاءِ: {إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} 22: 63 وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّورَى: {اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} 42: 19 أَيْ رَفِيقٌ بِهِمْ يُوصِلُ إِلَيْهِمُ الْخَيْرَ وَالرِّزْقَ، بِمُنْتَهَى الْعِنَايَةِ وَالرِّفْقِ. وَفِي سُورَةِ يُوسُفَ حِكَايَةٌ عَنْهُ {إِنَّ رَبِّي لِطَيْفٌ لِمَا يَشَاءُ} 12: 100 فَسَّرُوهُ بِلُطْفِ التَّدْبِيرِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ وَبِأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ بِجَمْعِ شَمْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ نَزْغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ. وَعَدَّ بَعْضُهُمْ مِنْ لُطْفِ الْعِلْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ لُقْمَانَ حِكَايَةً عَنْهُ {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِي بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لِطَيْفٌ خَبِيرٌ} 31: 16 وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَاهُ هُنَا أَنَّهُ اللَّطِيفُ بِاسْتِخْرَاجِهَا مِنْ كِنِّ خَفَائِهَا الْخَبِيرُ بِمَكَانِهَا مِنْهُ، وَنَزِيدُ عَلَيْهِمْ أَنَّ مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى جَعَلَ أَحْكَامَ دِينِهِ يُسْرًا لَا حَرَجَ فِيهَا وَهِيَ مِنْ صِفَةِ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرٌ لِعِلْمِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، فِي آخِرِ مَا خَاطَبَ بِهِ نِسَاءَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} 33: 34 فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الشَّاهِدُ عَلَى لُطْفِهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ، الْمُنَاسِبُ فِي الْكَمَالِ لِلُطْفِهِ فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَهُوَ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا لَا يَظْهَرُ فِيهَا غَيْرُهُ.
وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَأْبَوْنَ جَعْلَ اللَّطِيفِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ لَهُ سُبْحَانَهُ- كَالرَّحِيمِ وَالْحَلِيمِ- وَالْأَثَرِيُّونَ وَالصُّوفِيَّةُ لَا يَأْبَوْنَ مِثْلَ ذَلِكَ بَلْ يُثْبِتُونَهُ، وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْآيَةِ كَلِمَةً تُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ تَأْيِيدًا لِمَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَثَرِ وَالصُّوفِيَّةِ وَهُوَ مُعْتَزِلِيُّ مُبَالِغٌ فِي التَّنْزِيهِ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ كَالرَّازِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَأَبِي السُّعُودِ وَالألوسي قَالَ: وَهُوَ لَطِيفٌ يَلْطُفُ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ، الْخَبِيرُ بِكُلِّ لَطِيفٍ فَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ لَا تَلْطُفُ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ انْتَهَى. نَقَلُوا هَذَا الْمَعْنَى عَنْهُ وَجَعَلُوا اللَّطِيفَ مُسْتَعَارًا مِنْ مُقَابِلِ الْكَثِيفِ لِمَا لَا يُدْرَكُ بِالْحَاسَّةِ وَلَا يَنْطَبِعُ فِيهَا.
قَالَ الألوسي: وَيُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِ الْبَهَائِيِّ- كَمَا قَالَ الشِّهَابُ- أَنَّهُ لَا اسْتِعَارَةَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى الْحُسْنَى: اللَّطِيفُ الَّذِي يُعَامِلُ عِبَادَهُ بِاللُّطْفِ، وَأَلْطَافُهُ جَلَّ شَأْنُهُ لَا تَتَنَاهَى ظَوَاهِرُهَا وَبَوَاطِنُهَا فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَى {وَإِنْ تَعُدُّوَا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} 14: 34 وَقِيلَ: اللَّطِيفُ الْعَلِيمُ بِالْغَوَامِضِ وَالدَّقَائِقِ، مِنَ الْمَعَانِي وَالْحَقَائِقِ؛ وَلِذَا يُقَالُ لِلْحَاذِقِ فِي صَنْعَتِهِ لِطَيْفٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّطَافَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْكَثَافَةِ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي ظَاهِرِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ أَوْصَافِ الْجِسْمِ، لَكِنَّ اللَّطَافَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْجِسْمِ لِأَنَّ الْجِسْمِيَّةَ يَلْزَمُهَا الْكَثَافَةُ، وَإِنَّمَا لَطَافَتُهَا بِالْإِضَافَةِ، فَاللَّطَافَةُ الْمُطْلَقَةُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوصَفَ بِهَا النُّورُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يَجِلُّ عَنْ إِدْرَاكِ الْبَصَائِرِ فَضْلًا عَنِ الْأَبْصَارِ، وَيَعِزُّ عَنْ شُعُورِ الْإِسْرَارِ فَضْلًا عَنِ الْأَفْكَارِ، وَيَتَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ الصُّوَرِ وَالْأَمْثَالِ، وَيُنَزَّهُ عَنْ حُلُولِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ، فَإِنَّ كَمَالَ اللَّطَافَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ هَذَا شَأْنُهُ، وَوَصْفُ الْغَيْرِ بِهَا لَا يَكُونُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَلْ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا دُونَهُ فِي اللَّطَافَةِ، وَيُوصَفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ بِالْكَثَافَةِ، انْتَهَى. وَتَعَقَّبَهُ الألوسي بِقَوْلِهِ: وَالْمُرَجَّحُ أَنَّ إِطْلَاقَ اللَّطِيفِ بِمَعْنَى مُقَابِلِ الْكَثِيفِ- عَلَى مَا يَنْسَاقُ إِلَى الذِّهْنِ- عَلَى اللهِ تَعَالَى لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى. اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ اللَّطِيفُ مِنْ إِثْبَاتِ اللُّطْفِ بِالذَّاتِ لِلَذَّاتِ الَّتِي لَا تُشْبِهُهَا الذَّوَاتُ، وَمِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَضْعِيفِ جَعْلِ اللَّطِيفِ بِمَعْنَى الْعَلِيمِ بِالدَّقَائِقِ كِلَاهُمَا مِنْ بَابِ الْحَقَائِقِ، إِذْ مَا فُسِّرَ بِهِ اللَّطِيفَ هُنَا هُوَ مَعْنَى الْخَبِيرِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّطَافَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْجِسْمِ إِلَخْ، لَهُ وَجْهٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَكِنَّ الْجِسْمَ فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْحُكَمَاءِ أَعَمُّ مِنَ الْجِسْمِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَمَدْلُولِ اشْتِقَاقِهَا. فَالْجِسْمُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْجَسَامَةِ أَيِ الضَّخَامَةِ، وَهُوَ كَمَا فِي اللِّسَانِ وَغَيْرِهِ: جَمَاعَةُ الْبَدَنِ أَوِ الْأَعْضَاءِ مِنَ النَّاسِ وَالْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْعَظِيمَةِ الْخَلْقِ وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ الْقَابِلُ لِلْقِسْمَةِ أَوْ مَا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ، وَالْمَوْجُودَاتُ الْمَادِّيَّةُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا أَيْضًا، وَقَدْ عُرِفَ فِي عُلُومِ الْكَوْنِ وَاتِّسَاعِهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا هُوَ أَلْطَفُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ يُعْرَفُ فِي الْعُصُورِ الْخَالِيَةِ الَّتِي كَانَ يُضْرَبُ فِيهَا الْمَثَلُ بِلُطْفِ الْهَوَاءِ أَوِ النَّسِيمِ، إِذْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا النَّسِيمَ اللَّطِيفَ مُرَكَّبٌ مِنْ عُنْصُرَيْنِ كُلٌّ مِنْهَا أَلْطَفُ مِنَ الْمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِلْهَوَاءِ الْمُحِيطِ بِأَرْضِنَا حَدًّا قَرِيبًا، وَأَنْ فِي الْكَوْنِ مَوْجُودًا آخَرَ أَلْطَفُ مِنْهُ وَمِنْ كُلٍّ مِنْ عُنْصُرَيْهِ وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ الْعَنَاصِرِ الْبَسِيطَةِ اللَّطِيفَةِ الْخَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ النُّورَ وَالْحَرَارَةَ مِنَ الشُّمُوسِ وَالْكَوَاكِبِ الْمُتَفَاوِتَةِ الْأَبْعَادِ الشَّاسِعَةِ إِلَى هَوَائِنَا فَأَرْضِنَا وَيُسَمُّونَهُ (الْأَثِيرَ) فَهَذَا الْمَوْجُودُ السَّارِي فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، الرَّابِطُ لِبَعْضِهَا بِبَعْضٍ كَمَا يَجْزِمُ بِهِ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا، قَدْ لَطُفَ عَنْ أَدْرَاكِ الْعُيُونِ وَعَنْ تَصَرُّفِ أَيْدِي الْكِيمَاوِيِّينَ الَّذِينَ يُرْجِعُونَ الْمَاءَ وَالْهَوَاءَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ إِلَى بَسَائِطِهَا اللَّطِيفَةِ الَّتِي لَا تُرَى، وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا أَنْوَاعًا مِنَ التَّصَرُّفِ، وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ، وَيَرَى بَعْضُ الْمُثْبِتِينَ لِاسْتِقْلَالِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَقُدْرَتِهَا عَلَى الشَّكْلِ فِي الْأَشْبَاحِ اللَّطِيفَةِ وَالْكَثِيفَةِ أَنَّهَا تَسْتَعِينُ عَلَى هَذَا التَّشَكُّلِ بِالْأَثِيرِ، فَأَلْطَفُ شَبَحٍ تَتَجَلَّى بِهِ يَتَّخِذُ مِنَ الْأَثِيرِ الْمُكَثَّفِ بَعْضَ التَّكْثِيفِ بِحَيْثُ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ النُّفُوذِ فِي كَثَائِفِ الْأَجْرَامِ، وَقَدْ تَأْخُذُ شَبَحًا لَهَا مِنْ جِسْمِ بَشَرٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ تَنَاسُبٌ كَمُسْتَحْضِرِي. الْأَرْوَاحِ، فَإِذَا خُلِعَتِ الرُّوحُ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ امْتَنَعَتْ رُؤْيَتُهَا لِتَنَاهِي لَطَافَتِهَا.
وَإِذَا كَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ فِي كُلِّ رُتْبَةٍ مِنْ رُتَبِ الْوُجُودِ، وَكُلِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ تِلْكَ الرُّتَبِ قَدِ اسْتَفَادَ وُجُودَهُ وَصِفَاتِهِ مِنَ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، وَكَانَ اللُّطْفُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى تَفَاوُتِهَا الْعَظِيمِ، فَلابد أَنْ يَكُونَ لُطْفُهُ تَعَالَى أَدَقَّ وَأَخْفَى مِنْ لُطْفِهَا، وَإِذَا كَانَ لُطْفُ بَعْضِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْجِسْمِيَّةَ اللُّغَوِيَّةَ وَلَا الْعُرْفِيَّةَ فَلُطْفُهُ عَزَّ وَجَلَّ أَجْدَرُ بِذَلِكَ وَأَحَقُّ، فَعُلَمَاؤُنَا كَافَّةً وَالرُّوحِيُّونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ- كَمَا يَقُولُ الصُّوفِيَّةُ- بِتَجَلِّي أَرْوَاحِ الْمَوْتَى فِي صُوَرٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي اللُّطْفِ، وَبِتَجَرُّدِ بَعْضِ أَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ وَظُهُورِهَا فِي أَشْبَاحٍ لَطِيفَةٍ أُخْرَى، وَالرُّوحِيُّونَ الْمُنْكِرُونَ مِنْهُمْ لِذَلِكَ- كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ لَمْ يُعْرَفْ كُنْهُهَا، وَأَنَّهَا أَلْطَفُ وَأَخْفَى مِنَ الْأَثِيرِ وَمِنَ الْبَسَائِطِ الْمَادِّيَّةِ بِأَسْرِهَا، وَهَى مَعَ ذَلِكَ عَاقِلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ، وَالْمَادِّيُّونَ يَقُولُونَ: إِنَّ مَادَّةَ الْكَوْنِ الْأُولَى الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهَا صُوَرُ جَمِيعِ الْعَنَاصِرِ وَمُرَكَّبَاتِهَا لَا يُعْرَفُ لَهَا كُنْهٌ، وَلَا يُدْرِكُهَا طَرْفٌ، وَلَا يُوضَعُ لَهَا حَدٌّ، وَإِنَّهَا فِي مُنْتَهَى اللُّطْفِ وَهَى أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ فَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ رُوحِيِّينَ وَمَادِّيِّينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ لُطْفَ ذَاتِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّرْكِيبَ وَلَا الْحَدَّ وَلَا التَّحَيُّزَ، فَلُطْفُ ذَاتِ الْخَالِقِ أَوْلَى بِتَنَزُّهِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا فَرَّ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ هَذِهِ اللَّوَازِمِ حَتَّى لَجَأَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّعْطِيلِ وَبَعْضُهُمْ إِلَى التَّأْوِيلِ لِأَكْثَرِ مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ فِي كُتُبِهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْوَاجِبِ عَلَى الْجَائِزِ، وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ. وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ 104 وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 105 اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 106 وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ 107}.
الْآيَاتُ السَّابِقَةُ كُلُّهَا فِي الْإِلَهِيَّاتِ مِنْ عَقَائِدِ الدِّينِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي التَّنْبِيهِ لِمَكَانَتِهَا مِنَ الْهِدَايَةِ، وَفِي الْمُبَلِّغِ لَهَا عَنِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ، وَإِعْلَامِهِ بِسُنَّةِ اللهِ فِيهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ بَشَرٌ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَا يُنْفَى عَنْهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. قَالَ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمِ} الْبَصَائِرُ: جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَلَهَا مَعَانٍ مِنْهَا عَقِيدَةُ الْقَلْبِ وَالْمَعْرِفَةُ الثَّابِتَةُ بِالْيَقِينِ، أَوِ الْيَقِينُ فِي الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالْعِبْرَةُ وَالشَّاهِدُ، أَوِ الشَّهِيدُ الْمُثْبِتُ لِلْأَمْرِ، وَالْحُجَّةُ أَوِ الْفَطِنَةُ، أَوِ الْقُوَّةُ الَّتِي تُدْرَكُ بِهَا الْحَقَائِقُ الْعِلْمِيَّةُ. وَهَذَا يُقَابِلُ الْبَصَرَ الَّذِي تُدْرَكُ بِهِ الْأَشْيَاءُ الْحِسِّيَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُعَاوِيَةَ لِبَعْضِ بَنِي هَاشِمٍ: إِنَّكُمْ يَا بَنِي هَاشِمٍ تُصَابُونَ فِي أَبْصَارِكُمْ. وَقَوْلُ الْهَاشِمِيِّ لَهُ: وَأَنْتُمْ يَا بَنِي أُمَيَّةَ تُصَابُونَ فِي بَصَائِرِكُمْ. أَيْ قُلُوبِكُمْ وَعُقُولِكُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْبَصَائِرِ هُنَا: الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَوْ فِي هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي أَوَّلَهُ {إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} أَوْ هِيَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِحَقَائِقِ الدِّينِ أَوِ الْقُرْآنِ بِجُمْلَتِهِ، وَرُبَّمَا يَرْجِعُ هَذَا بِتَذْكِيرِ الْفِعْلِ جَاءَكُمْ إِذْ لابد لَهُ مِنْ نُكْتَةٍ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، وَأَقْوَى النُّكَتِ وُقُوعُ اللَّفْظِ الْمُؤَنَّثِ عَلَى مَعْنَى مُذَكَّرٍ، وَالْخِطَابُ وَارِدٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، فَالْمَعْنَى قَدْ جَاءَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْجَلِيَّةِ بَصَائِرُ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، تُثْبِتُ لَكُمْ عَقَائِدَ الْحَقِّ الْيَقِينِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا نَيْلُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، جَاءَكُمْ ذَلِكَ مِنْ رَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَسَوَّاكُمْ، وَرَبَّى أَجْسَادَكُمْ وَمَشَاعِرَكُمْ وَسَائِرَ قُوَاكُمْ، لِيُرَبِّيَ بِهَا أَرْوَاحَكُمْ، بِأَحْسَنِ مِمَّا رَبَّى بِهِ أَشْبَاحَكُمْ {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} أَيْ فَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا الْحَقَّ وَالْهُدَى، فَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى، فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ وَلِسَعَادَتِهَا مَا قَدَّمَ مِنَ الْخَيْرِ وَأَخَّرَ {وَمِنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} أَيْ وَمِنْ عَمِيَ عَنِ الْحَقِّ بِإِعْرَاضِهِ عَنْهَا وَعَدَمِ النَّظَرِ وَالِاسْتِبْصَارِ بِهَا، فَأَصَرَّ عَلَى ضَلَالِهِ، ثَبَاتًا عَلَى عِنَادِهِ أَوْ تَقْلِيدِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، فَعَلَيْهَا جَنَى وَإِيَّاهَا أَرْدَى، وَلَعَمَى الْبَصَائِرِ شَرٌّ مِنْ عَمَى الْأَبْصَارِ. وَأَسْوَأُ عَاقِبَةً فِي هَذِهِ الدَّارِ وَفِي تِلْكَ الدَّارِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}، وَقَوْلِهِ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 2: 286 وَقَوْلِهِ: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} 17: 7 وَقَوْلُهُ هُنَا: {فَلَهَا} بِمَعْنَى فَعَلَيْهَا وَنُكْتَتُهُ الْمُشَاكَلَةُ أَوِ الِازْدِوَاجُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} يُرَاقِبُ أَعْمَالَكُمْ وَيُحْصِيهَا لِيُجَازِيَكُمْ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا أَنَا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ هُوَ الرَّقِيبُ الْحَفِيظُ، فَهُوَ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهِ بِمَا تَسْتَحِقُّونَ، فَعَلَيْهِ وَحْدُهُ الْحِسَابُ، وَمَا عَلَيَّ إِلَّا الْبَلَاغُ.
{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} أَيْ وَمِثْلَ ذَلِكَ التَّصْرِيفِ وَالتَّفَنُّنِ الْعَلِيِّ الشَّأْنِ الْبَعِيدِ الشَّأْوِ فِي فُنُونِ الْمَعَانِي وَأَفْنَانِ الْبَيَانِ- الَّذِي تَرَاهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَوْ هَذَا السِّيَاقِ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، لِإِثْبَاتِ أُصُولِ الْأَدْيَانِ، وَالْهِدَايَةِ لِأَحَاسِنَ الْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ، فَنُحَوِّلُهَا مِنْ نَوْعٍ إِلَى نَوْعٍ وَمَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، مُرَاعَاةً لِلْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ، وَلِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَفْرَادِ وَالْأَقْوَامِ {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} الْمَعْنَى الْعَامُّ لِلدَّرْسِ تَكْرَارُ الْمُعَالَجَةِ وَتَتَابُعُ الْفِعْلِ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى يَذْهَبَ بِهِ أَوْ يَصِلَ إِلَى الْغَايَةِ مِنْهُ، يُقَالُ: دَرَسَ الشَّيْءُ كَرَسْمِ الدَّارِ وَآثَارِهَا يَدْرُسُ (مِنْ بَابِ قَعَدَ) إِذَا عَفَا وَزَالَ بِفِعْلِ الرِّيحِ أَوْ تَتَابَعَ الْمَشْيُ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ فَهُوَ دَارِسٌ، وَدَرَسَتْهُ الرِّيحُ أَوْ غَيْرُهَا، وَدَرَسَ اللَّابِسُ الثَّوْبَ دَرْسًا أَخْلَقَهُ وَأَبْلَاهُ فَهُوَ دَرِيسٌ، وَدَرَسُوا الطَّعَامَ أَيِ الْقَمْحَ دَاسُوهُ لِيَتَكَسَّرَ فَيُفَرَّقَ بَيْنَ حَبِّهِ وَتِبْنِهِ، وَدَرَسَ النَّاقَةَ دَرْسًا رَاضَهَا، وَدَرَسَ الْكِتَابَ وَالْعِلْمَ يَدْرُسُهُ دَرْسًا وَدِرَاسَةً وَدَارَسَهُ مُدَارَسَةً- مِنْ ذَلِكَ. قَالَ فِي اللِّسَانِ عَقِبَ نَقْلِهِ كَأَنَّهُ عَانَدَهُ حَتَّى انْقَادَ لِحِفْظِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَدَرَسْتُ الْكِتَابَ أَدْرُسُهُ أَيْ ذَلَّلْتُهُ بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى خَفَّ حِفْظُهُ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، وَالدُّرْسَةُ بِالضَّمِّ الرِّيَاضَةُ فَفِي كُلِّ مَا ذُكِرَ مَعْنَى تَكْرَارِ الْعَمَلِ وَمُتَابَعَتِهِ حَتَّى بُلُوغِ الْغَايَةِ مِنْهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ {دَرَسْتَ} فِعْلًا مَاضِيًا لِلْمُخَاطَبِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو {دَارَسْتَ} لِلْمُشَارَكَةِ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ {دَرَسَتْ} بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ التَّاءِ وَهَى مَرْوِيَّةٌ عَنْ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنِ. وَالتَّعْلِيلُ فِي قَوْلِهِ: {دَرَسْتَ} خَاصٌّ مَعْطُوفٌ عَلَى تَعْلِيلٍ عَامٍّ يُعْرَفُ مِنَ الْقَرِينَةِ.
وَالْمَعْنَى وَكَذَلِكَ نَصَرِّفُ الْآيَاتِ عَلَى أَنْوَاعٍ شَتَّى لِيَهْتَدِيَ بِهَا الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ، وَلِيَقُولَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ- الْجَاحِدُونَ الْمُعَانِدُونَ مِنْهُمْ وَالْمُقَلِّدُونَ- قَدْ دَرَسْتَ مِنْ قَبْلُ يَا مُحَمَّدُ وَتَعَلَّمْتَ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَحَيٍ مُنَزَّلٍ كَمَا زَعَمْتَ وَقَدْ قَالُوا مِثْلَ هَذَا إِفْكًا وَزُورًا وَزَعَمُوا أَنَّهُ تَعَلَّمَ مِنْ غُلَامٍ رُومِيٍّ كَانَ يَصْنَعُ السُّيُوفَ فِي مَكَّةَ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ كَثِيرًا. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 16: 103 أَوْ لِيَقُولُوا: دَارَسْتَ الْعُلَمَاءَ وَذَاكَرْتَهُمْ وَجِئْتَنَا بِمَا تَلَقَّيْتَهُ عَنْهُمْ، أَوْ دَرَسَتْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ وَمُحِيَتْ بِمَعْنَى أَنَّهَا أَسَاطِيرُ قَدِيمَةٌ قَدْ رَثَتْ وَخَلَقَتْ، وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 25: 4، 5 وَأَظْهَرُ مِنْهُ فِي تَأْيِيدِ الْقِرَاءَةِ الْأَخِيرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ هُودٍ فِي الشُّعَرَاءِ: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} 26: 136- 138 وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ حِكَايَةُ أَقْوَالِ ثَلَاثِ فِئَاتٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْعَجِيبِ فِي الْكَلِمِ وَالرَّسْمِ.
قِيلَ: إِنَّ اللَّامَ فِي قوله: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} لِلْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ، أَيْ لِيَكُونَ عَاقِبَةُ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ أَنَّ يَقُولَ الرَّاسِخُونَ فِي الشِّرْكِ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ مُكَابَرَةً وَعِنَادًا وَجُحُودًا وَإِلْحَادًا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} 2: 26 وَنَقُولُ: لَيْسَ مَعْنَى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا أَنَّ الْإِضْلَالَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي أُنْزِلَ لِأَجْلِهَا أَوِ الَّتِي مِنْ شَأْنِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً وَسَبَبًا لَهَا، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِهِ إِعْرَاضُ فَاسِدِي الْفِطْرَةِ عَنْهُ وَضَلَالُهُمْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ بِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْعَاقِبَةِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى إِنْزَالِهِ كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى جَمِيعِ الْمَنَافِعِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ لِلنَّاسِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ مَضَارٌّ كَثِيرَةٌ مِنْ سُوءِ الِاسْتِعْمَالِ.
{وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أَيْ وَلِنُبَيِّنَ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ بَعْضُ الْمُكَابِرِينَ إِنَّهُ أَثَرُ دَرْسٍ وَاجْتِهَادٍ، أَوْ لِنُبَيِّنَ التَّصْرِيفَ الْمَفْهُومَ مِنْ {نُصَرِّفُ} لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بِالْفِعْلِ وَبِالِاسْتِعْدَادِ، الَّذِي لَا يُعَارِضُهُ تَقْلِيدٌ وَلَا عِنَادٌ، مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنَ الْحَقَائِقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهَا مِنَ السَّعَادَةِ فَعُلِمَ مِنْ عَطْفِ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ إِنَّكَ دَرَسْتَ أَوْ دَارَسْتَ حَتَّى جِئْتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ إِذْ كَانَتْ أَثَرَ الدَّرْسِ أَوِ الْمُدَارَسَةِ هُمُ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ لَمْ يَفْهَمُوا تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي صَرَفَهَا اللهُ عَلَى أَنْوَاعٍ أَوْ أَشْتَاتٍ، أَوْ لَمَ يَفْهَمُوا سِرَّهَا وَمَا يَجِبُ مِنْ إِيثَارِهَا عَلَى مَنَافِعَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا. وَأَمَّا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَدْلُولَاتِهَا وَحَسُنَ عَاقِبَةِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا، فَهُمُ الَّذِينَ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ بِتَأَمُّلِهَا حَقِيقَةَ الْقُرْآنِ أَوْ مَا فِي التَّصْرِيفِ لَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ، الْمُؤَيَّدِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ.